• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

استفد من الخجل

خليل حنا تادرس

استفد من الخجل
◄لا شكّ أنّ الخجل نقيصة من نقائص الإنسان كلّ سلوك مصدره الإفراط في الإحساس بالذات، ومع هذا ففي إمكاننا أن نستفيد من الخجل.

إنّ الشجاعة أمر مستحب فإذا زادت عن حدها أصبحت رذيلة، ويصدق هذا بالنسبة للخجل أيضاً. فهو – أي الخجل – قد يبدو لائقاً بالنسبة للأطفال أو المراهقين، أو للفتيات. وكم من شابة أسرت قلوب الرجال واستهوت أفئدتهم لا لشيء إلّا لأنّها تعرف كيف يحمر وجبهها خجلاً في الوقت المناسب.

ومن جهة أخرى فإنّ الجرأة وهي نقيض الخجل – كثيراً ما تثير امتعاض الناس بل كراهيتهم، ومن هنا يصدق قول الحكيم الذي عرف الفضيلة بأنّها وسط بين رذيلتين.

ويقول: "بنجامن فرانكلين" في سيرة حياته أنّ الرجل الكامل لابدّ أن يقع في بعض الأخطاء حتى يستطيع الاحتفاظ بأصدقائه. فليس هناك كمال إذن وإدراكك لهذه الحقيقة يوفر عليك الكثير من المتاعب التي يمكن أن تقع فيها. والواقع أنّ الرجال الموهوبين الذين ينظر إليهم المجتمع بعين الاحترام، في استطاعتهم بث الشعور بالكمال في نفسك عندما تلتقي بهم، ذلك لأنّ الفرد يرتاح في محضرهم حين يشعر بأنّ شخصيته كاملة لم تنتقص، وأنّ في استطاعته أن يصادقهم في يسر ودون عناء.

إنّني أقول هذا الكلام ليكون بمثابة تحذير لأولئك الذين يظنون أنّ الجرأة وفرض النفس على الآخرين هما السبيل إلى النجاح في الحياة. ويحدث هذا غالباً بالنسبة للذين يشكون الإفراط في الشعور بالذات، عندما يتخلصون من هذا الشعور، ويمارسون ما يعرف بعملية التعويض فيتحولون من منتهى الخجل إلى منتهى الجرأة.

وبالرغم من كثرة الحالات التي تُعرض للطبيب النفسي، فنادراً ما يقع على حالة من هذا الحالات المفرطة في الثقة بنفسه إلى درجة الوقاحة، وإنّما هو في الغالب يمارس عمله بين جماعة من الخائفين الخجولين الذين يعانون من الإحساس المفرط بالذات.

ومن الحالات التي خبرتها بنفسي حالة "برندا" وهي سيدة جذابة في الخامسة والعشرين من عمرها، أتمت تعليمها وحصلت على درجات علمية، وهي تتقاضى الآن راتباً كبيراً في مؤسسة كبرى. وبالرغم من هذا النجاح "برندا" كانت تشعر بالوحدة والفراغ والتعاسة. قالت لي:

- أعرف أنّه من العسير عليك أن تفهمني تماماً، إنّ الكلّ يعتبروني فتاة محظوظة يجب ألا تشعر بالقلق.. فعندي من الثياب أجملها، وأعيش في شقة خاصة على حرّيتي دون أن يقيدني رقيب. أجل.. أنّني أعرف عدداً لا يستهان به من الرجال.. ولا تحملق في هكذا.. وكلّهم معجبون بي..

وقاطعتها قائلاً:

- ولكن أحداً منهم لا يحبك أليس كذلك...؟

ولبرهة قصيرة اختفى ذلك التعبير الذي يكسو وجهها، وبدت أمامي كالطفلة الصغيرة المضطربة، ولكن سرعان ما استعادت رباطة جأشها..

كانت برندا قد جاءت لاستشارتي بعد أن أصبحت تعاني من الأرق الذي لم يفلح الطب في علاجه. وكانت قلة النوم تجعل منها مخلوقة عصبية لا تتقن عملها – كسابق عهدها – في المؤسسة التي تعمل بها. وقد استغرقت في الواقع وقتاً طويلاً كي أقنعها أنّ السبب الأساسي لما تعانيه من أرق هو إخفاق حياتها الغرامية.

وأخيراً جداً هزت مريضتي رأسها وقد بدا عليها اليأس وقالت:

- حسناً. وماذا أفعل الآن.. هل أرتدي ثوباً مفضوحاً وأستجدي الحب من الشارع..؟

- إنّ فتاة لها هذا المظهر وهذه الشخصية والقدرة لا تفكر بهذه الطريقة أبداً..

هكذا قلت لها ثمّ استأنفت حديثي:

- كلّ ما في الأمر أنّك تخفين أنوثتك وجاذبيتك وقدرتك على الحب، وتحكمين عقلك في عواطفك لدرجة تتناسين معها رغباتك كأنثى، أنّ كلّ ما تريدينه هو جرعة من الخجل، فاطرحي عنك بعض غلوائك، وثقتك المفرطة في نفسك، فإنّ الرجال يخافون هذه الخصال وخاصة إذا توافرت في المرأة، فاحرصي على ألا تكون لك الكلمة الأخيرة والرأي القاطع.. اخجلي.. اخجلي قليلا..

والواقع أنّ مشكلة "برندا" ليست فردية، وإنّما هي مشكلة ذلك النوع من الفتيات المثقفات اللواتي يعتقدن أنّ المساواة تعني مناوأة الرجل والتسلط عليه، وعدم الأخذ بشيء مما يقول.. والنتيجة لا تكون إلّا وبالاً عليهنّ فحسب. إنّ الثقافة يجب ألا تلغي الأنوثة أبدا. وليس معنى أن تكون الفتاة مثقفة أن تسيطر على الرجل وترغمه على التخلي عن القيادة. ذلك أنّ الرجل يريد المرأة لكي يستريح.. لكي يحقق وجوده كرجل، وليس للانخراط في مناقشات لا نهاية لها، أو للخضوع والانقياد.

وإذا كنا نطالب النساء ببعض الخجل، فهذا لا يعني أنّنا ننكره على الرجال، فالواقع أنّ الرجل في استطاعته هو الآخر أن يستفيد من الخجل، ومن هؤلاء أذكر حالة "ادوارد".

قابلته أوّل مرة وهو مازال طالباً في المدرسة العليا لا يزيد سنه عن السادسة عشرة، وعندئذ قال لي والداه:

- إنّه ذكي لا ريب في ذلك، فهو على رأس فصله على الدوام برغم أنّه لا ينفق كلّ وقته في الاستذكار، وهو محبوب من أقرانه في المدرسة وهو منهم بمثابة الزعيم. أما ما نشكو منه فهو التمرد الذي نعاني منه أشد المعاناة، أنّه يعامل أفراد الأسرة على أنّهم جماعة من الأغنياء الذين لا يدرون شيئاً من أمور دنياهم وهو الآن يريد أن يقطع دراسته ويبدأ في العمل حتى يرى العالم – على حد تعبيره – كيف تكون الحياة.

وبدأت جلساتي مع الفتى، والغريب أنّه كان كما قال والداه تماماً، ولو كان الخجل يباع في الصيدليات لأمرت له بجرعة كبيرة.. أكبر مما يتصور!. أنّه واحد من الآلاف الذين يتمردون على المجتمع دون استبصار أو تعقل.

على كلّ حال، لقد أصر "ادوارد" على ترك المدرسة، وتقلب في أعمال كثيرة، وكان الأمر ينتهي به في كلّ مرة إلى أن يطرد شر طرده دون اعتراف بعبقريته المزعومة.

ورأيته مرة أخرى وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعندما بدأ في الشكوى واجهته بكلّ شيء. قلت له أنّه برغم ما يبدو عليه من مخايل الذكاء والنضج الجسمي إلّا أنّه لا يزال مراهقاً من الناحية الانفعالية، ولم يبلغ بعد سن النضج.

واستمع إليّ والغضب يبدو في وجهه، واقترحت عليه أن يتواضع ولو قليلاً، وعندئذ هب عن مجلسه ثائراً، واتجه صوب الباب وغادر الحجرة.

ولم تمضِ إلّا فترة يسيرة حتى نشبت الحرب العالمية الثانية، واستطاع الجيش أن ينجح فيما فشل فيه الطب النفسي، وبعد انتهاء الحرب لم يعد ادوارد رجلاً فحسب، وإنّما أصبح بطلاً. وزارني بعد الحرب في مكتبي. كان الآن رجلاً مكتمل الرجولة، زالت عنه كلّ المظاهر الصبيانية السابقة، وقال لي في نهاية الزيارة:

- شكراً يا دكتور لاصطناعك الصبر مع مغفل مثلي، لقد أفلح الجيش في تحطيم الأفكار الخرافية التي كانت تملأ رأسي.. ولكنني آمنت عندئذ بصدق كلامك عندما طلبت مني أن أتواضع ولو قليلاً.

أنّني لا أمنع أحداً من أن يحقق ما يشاء من نجاح. ولكن الغرور شيطان مضلل، كلما أطعمته بالفخر قادك إلى الهاوية، ولعلكم قد فهمتهم الآن ما هو الخجل الذي أرحب به.. إنّه بعض التواضع الذي يحقق للإنسان النجاح.►

 

المصدر: كتاب فن التعامل مع الناس

ارسال التعليق

Top